رابطة أساتذة الفلسفة العرب

رابطة أساتذة الفلسفة العرب

Contact information, map and directions, contact form, opening hours, services, ratings, photos, videos and announcements from رابطة أساتذة الفلسفة العرب, Writer, .

08/03/2024

إدغار موران :
هل العلم بدون وعي مدان؟
ترجمة: محمد فرطميسي

اهتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟

في الوقت الذي يشيد فيه قرننا هذا صرحا رهيبا من المعارف، يغوص وبشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في مشكلاتها وموضوعاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، والرجوع المستمر لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس، بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها، أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية؛ في القرن العشرين، وضع هيدجر موضع تساؤل أساس الأسس، أي طبيعة الكائن. من الآن فصاعدا، نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، لتقويض معمم، ولتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.

لم يكف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، ومع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي-المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات/الإثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، ويرفعها إلى مستوى القوانين العامة. يبدو في نفس الآن، أن الدعامة المنطقية-الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة والعلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة والاعتباطية للميتافيزيقا، بتحويل الفلسفة إلى علم، وذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، وقابلة للتحقق منها. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما كان العمل الذي باشره فتجنشتاين L.Wittgenstein على مستوى اللغة، ودافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، ملازما لما قامت به جماعة فيينا.

لقد بدا، والحالة هذه، أن تنقية الفكر بإزالة كافة الشوائب، وضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد برهن كارل بوبر أن التحقق La vérification غير كاف بغية التأكد من حقيقة نظرية علمية. وكشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تحمل بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحض La réfutabilité.

ونبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان، وأساسا للحقيقة غير قابل للدحض. والحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة، إنجازات الميكروفيزياء التي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ ومن جهة ثانية، أقامت مبرهنة غوديل Gödel اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. منذ ذلك الحين، لم يعد التحقق التجريبي، ولا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.

في الوقت نفسه، انحل الجوهر المحدد والمميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، وأخلى النظام الكوني المكان لنوع من النظام غامض ولغزي. فبدا الكون أخيرا كما لو كان ثمرة انشطار خارق ومثير، وكأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه، هذا بالرغم من أن كل إنجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا ومنطقنا، وذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية إلى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه "مشكلة المشاكل… أي أزمة أسس الفكر" (بيير كورنير P.Cornaire).

في الواقع، مهما تجددت، وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها ستجد نفسها أمام المشكل كما طرحه كانط، ومن خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد والنفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بين أحدهما والآخر. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة وميلاد العلم، كان –بحق- هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت وباسكال وليبنتز. ومهما بدا اليوم أن العلم والفلسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته ودوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، وحتى بعد انفصالهما، فقد وجدت لدى الفلاسفة دائما تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة "معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها" (كارل بوبر).

إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز وراق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة. إنه يجهل الملاحظ-المشيد للمفاهيم. لقد حاول هوسرل جادا تبيان كيف أن "أزمة العلوم الأوروبية" تعبر بعمق عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعمل. إن العودة التأملية إلى وضعية العلم، تمكن وحدها، في نظره، من تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة وتأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بـ"العلماء" يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الإنساني.

إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية هو: هل تنفلت القوانين والاكتشافات، والموضوعية التي يضمنها العلم، من الشروط التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية الماثلة زمن ظهورها، أمر أنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بين مفكرون أمثال كارل بوبر، وتوماس كوهن، وجيرار هولتن، وإسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك "تيمات"، أفكارا استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، واللاحتمية عند نيلزبور Niels Bohr. لقد كشف كوهن Kuhn النقاب عن وجود براديغمات (أنماذج)، أو مبادئ خفية تتحكم في المعرفة، وتسمح بتنظيمها.

إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، والعقلانية، والتخييل والتحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، وآخرين تجريبيين أكثر، وسواهم تخييليين أو مسكونين بقابلية التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، وهو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. وهو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة ودقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، والإفراط في التخصص. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الوقت، العماء والوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الإصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal، والهادفة إلى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعا بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجاهلين بأصوله.

لكل مواطن الحق في المعرفة. وبالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، والأفكار الثاوية طيها، قابلة للتداول، ولا يجب أن تبقى –بأي حال- وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I.Prigogine، وريفز H.Reeves، ودي إسبانيا، وفرانسوا جاكوب… يبذلون جهدا لإشراكنا معارفهم، وهم بهذا يشخصون دور مفكري النهضة الأوروبية Les humanistes.

هناك إذن في الحالة الراهنة، قصور الفلسفة وحدها، وعدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. ونظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا-علم، أو ميتا-فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، وضد كل علم بدون وعي. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم والفلسفة الظهور في حوار كوجهين مختلفين، ومتكاملين لعلمة واحدة: الفكر.

المصدر:

Le nouvel observateur, Numéro Hors-série, N° 32, (Les grandes questions de la philosophe), Mars / 1998.

22/09/2023

مقال يستحق القراءة و التأمل منسوب العمق غير محدد شهية طيبة .

القلق من وجهة نظر مارتن هايدغر
بقلم أيوب السعيدي

تقديم:

يتناولُ هذا المقالُ موضوعةَ القلقِ من وجهةِ نظرِ مارتن هايدغر. ولن نختلف، فيما أعتقد، حول الأهمية الجوهرية لهذه الموضوعةِ عند فيلسوف الكينونة. فالكينونة لا تكون حرَّة وشفافة إلا بالانفصال التَّام عن اِنفعالاتها وإحساساتها، عن تصوراتها ومعتقداتها، والنَّظر إليها من فوق. هذه مهمة عسيرة، لكنها ليست مستحيلة. إن غائية القلق هي تحقيق الوعي بالذات؛ إذ إنَّ الحرية التي تطمح إليها الكينونة ليس بالإمكان تحصيلها ما لم تعش تجربة الشعور بالقلق. فالقلق ليس مرادفاً لليأس -كما يفهم عادة- بل هو مرادف للفرح بالوجود؛ ذلك لأنه ينقل الكينونة من الابتذال إلى الأصالة. دافعاً إياها إلى التَّفكير في نفسها، وفي علاقتها بأشياء العالم الخارجي، فإذا بها تحدس إلى أن العالم وما فيه محكومٌ عليه بالتَّلاشي والاندثار، وهي كذلك محكومٌ عليها بـ»التناهي.« هذا الحدس يمنع أي تعلق وجداني لا بالتقنية، ولا بالآخرين، ولا بالعالم -أي كل ما من شأنه أن يجعل الكينونة مستعبدة وغير حرة. لذلك، كانت الحرية التي يفضي إليها القلق هي ما نصل إليه بعد مجاهدة ومكابدة، واِرتداد إلى الكينونة والوجود وإطالة التفكير فيهما ومحاولة ُ تفسيرهما ميتافيزيقياً.

الميتافيزيقا نداء مستمر:

تعدُّ رسالة هايدغر، ما الميتافيزيقا؟، من بين الرسائل الأولى التي افتتح بها أولى محاضراته بجامعة فريبورج في 24 يوليوز سنة 1929، بمناسبة تعيينه أستاذاً بها خلفاً لهوسرل الذي كان يبلغ السبعين من عمره آنذاك. وقد تضمنت هذه الرسالة تساؤلاً عن العدم، وشرحاً دقيقاً مختصراً لمفهوم القلق، وبياناً باهراً ذكياً لصلة العدم بالسلب، بالنفي، وانتصاراً مبطَّناً للميتافيزيقا. يقول: "لا يعادل إحكام أي علم رصانة الميتافيزيقا[1]".

يعلن هيدغر أن العلم لا يتجاوز حدود ما هو موجود، ما يراه ويدركه. يقول: "ما يجب على البحث أن ينفذ فيه، هو، ببساطة، ما هو موجود- وخارجاً عنه - لا شيء: فقط ما هو موجود، وغير ذلك - لا شيء: حصراً، ما هو موجود وما بعده - لا شيء[2]". فالعلم يختزل الموجود في جملة من العلاقات، في جملة من الصُّور، وبالتالي يلغي بطريقة سريَّة الحضور المباشر للفكرة/ للمثال في الذهن، وهو يستبعد من رقعته كل ما هو غير موجود. وهذه العبارة "غير موجود" لا تعني بالضرورة أن هذا الشيء الذي يتحاشاه العلم ويعرض عنه بنفيه إياه "غير موجود" قطعاً، بل فقط لا يعرف عنه شيئاً، لذلك لا يفكّر فيه كشيء موجود. يقول: "إننا نعرفه بقدر ما لا نريد أن نعرف عنه شيئاً، ولا أن نعرف أي شيء عن هذا اللاشيء[3]".

إن العلم يرفض العدمَ، بدعوى أنه لا شيء. وهذا اللاشيء هو جوهر العدم. إن هذا الرفض للعدم، عدم قبوله كشيء ثاوٍ في العالم، هو في حدّ ذاته دليل على وجوده، فهو لا يوجد كما توجد الموجودات الأخرى، وإنما يوجد على نحو خاص، خاصّ به هو كعدم، شيء يتوافق كلياً مع ما هو كذلك.

إن العدم يتخلل حياتنا اليومية، فكل سلوك يصدر عن الكينونة هو سلوك مُعْدِمٌ، لكننا نَغْفُلُ عنه بانغماسنا الكلي في كهف الحياة الحالك. يقول: "إن العدم [...] محجوب عنّا. بماذا هو محجوب عنَّا إذاً؟ بواقع كوننا، بطريقة محدّدة أو بأخرى، نكرّس أنفسنا كليّاً للموجود[4]". فـالعدم يلاحقنا، وهو معنا أينما كنّا. إنه يحملنا ونحن نحمله. وقولنا هذا يتفتَّح عن حقيقة مفادها: أن العلم لا يمكنه أن يغضَّ الطَّرف عن العدم. وينتج عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى: أن فهمه، أعني العلم، للواقع - الإنساني رهينٌ بإبقائه على العدم.

إن العلم، حسب هايدغر، غير متماسك لأنه نسي أصله، نسي الميتافيزيقا. فالـعلم جزء من الشّجرة العامة التي تشكّل الميتافيزيقا أصلها. فـ"الميتافيزيقا، يقول هايدغر، تؤلف طبيعة الإنسان[5]". من هنا نبسط السؤال: هل من الممكن أن يستعيد العلم مهمَّته، وبالتالي تماسكه؟ يجيب هايدغر: "يمكن للعلم أن يستعيد مهمّته الأساسية، بشرط وحيد هو أن يوجد العلم من الميتافيزيقا، هذه المهمة لا تقوم على تنظيم مجموعات، وتصنيف معارف، بل على أن يشرّع، بوحي دائم التجدّد، على مصراعيه، المدى الكّلي لحقيقة الطبيعة والتاريخ[6]".

إن الطبيعة المعقدة للكينونة- في- العالم مستعصية على الفهم. لا الإحاطة بها ولا حصرها ممكنان. والسبب يعود إلى كونها دائمة الانفتاح، الانفتاح على اللانهاية، وهذا ما يجعل من انفلاتها من تَحْتِ اليد قدراً لا محيد عنه.

ومع ذلك، فإن تحقيق جزء ضئيل من الفهم يتطلب الإنصات الجيد للعلم والميتافيزيقا معاً. إن العلم، كما أشرنا آنفاً، قال كلمته. أما الميتافيزيقا فإنها سوف تقول كلمة الفصل الآن، كلمة الفصل في مسألة العدم. ولن يكون الحظُّ حليفاً للعدم في التجلّي إلا بوجود عاطفة صنعت من مادَّة كاشفة هي عاطفة القلق، عندئذ لن "يعود العدم النقيضَ غير المحدَّد إزاء الموجود، ولكنَّه يظهر كمنشئ لكينونة هذا الموجود[7]". فـالقلق إذاً أصلي في الوجود، ومحال أن نقول مع دونس سكوت أنَّ الوجود يزداد اتضاحاً بواسطة العدم إن اندثَرَ القلق. فالـقلق كمعنىً مُلْتَاطٌ بالكينونة، الكينونة حُبْلَى بهذا المعنى السامي، ولو فرضنا جدلاً أن الـقلق انتُزِعَ بعدما وجدَ لكان هناك نقصٌ في الكينونة، ولما استطاع العدم نفسه الظُّهور: إن العدم يكون في حضرة القلق.

القلق، الطابع الأصلي للوجود:

إن الـقلق، باعتباره وجدانـاً أساسياً من شأنه أن يفتح الكينونة بما هي كذلك على العالم، ويقوم بعزلها، انتشالها من عمق الانحطاط والعمومية التي تطبع ما هو يومي، ووضعها بطريقة مميزة أمام نفسها. إن الانشغال بـ "اليومي" يغيّب الحقيقة، حقيقتنا؛ هذا "اليومي" الذي يَحْجُبُ عنَّا ما هو أصيل فينا، ويتركنا عائمين في ما هو تافه ومزيف: إن المزيف ينسينا وجودنا الأصلي، وجودنا المحض، ويحصرنا في بيت ضيّق لا أنوار فيه ولا أبواب ولا نوافذ. لذلك، فإن الـقلق الذي يطفو على سطح الكينونة في لحظات نادرة[8] له أن يرشدنا إلى كيفية اختيار أنفسنا وينقذنا من مصير لا رابطة بيننا وبينه، مصير مصطنع، مغشوش. فالـقلق يوسّع نظر الكينونة لتدرك أنها حرَّة.

إن القلق يختلف جوهرياً عن الخوف؛ فـالخوف يرتبط دوماً بموضوع محدَّد، إذ يتدفق فينا إحساس بالخطر من هذا الشيء المحدَّد الذي هو موضوع خوفنا. يقول هيدغر: "ما أمامه يكون الخوف هو في كل مرَّة كائن داخل العالم[9]"؛ يضيف موضِّحاً: "إن التهديد الذي هو وحده يمكن أن يكون مخوفاً والذي يكشف عنه الخوف، إنما يأتي دوماً من كائن داخل العالم[10]". إن الخوف هو باستمرار خوف من شيء ما محدَّد على شيء ما محدَّد داخل العالم، مما يعني أن الإنسان الخائف الذي يرتجف من شدَّة الخوف يحسُّ بأن هذا الشيء الذي يخاف منه يقيِّده إلى درجة الغثيان، ولا يدع له فرصة للفرار من قبضته الحديديَّة؛ فـالخوف ينشر جناحيه، جناحيه يَحْمِلانِ معنى الاضطراب، اللَّذان يظلان الكائن ويعملان على حجب أشعَّة الشمس من النفاذ إلى أعماقه من أجل إعادة الطمأنينة المفقودة، فقدها وهو يحاول بكل ما له من قوَّة دفعَ هذا الخوف بعيداً، الخوف الذي خالطه وجعله "يفقد صوابه[11]".

إذا كانت هذه هي حالةُ الخوف، فإن حالةَ القلق لا تشبهها ولا تَمُتُّ لها بصلةِ قرابة. فـالقلق "هو دوماً (قلق أمام...)، ولكنه ليس أبداً قلقاً أمام هذا الشيء أو ذاك. فـالقلق (أمام...) هو دوماً قلق (على...)، ولكنه ليس قلقاً على هذا أو ذاك[12]". فـالقلق غيرُ قابل للتحديد، وليس هناك ما يحدُّه بحدٍّ، فهو "الاستحالة الجوهرية في قبول أي تحديد[13]". ففي غمرة القلق يُحَسُّ بالضّيقِ، لكننا عاجزون عجزاً كاملاً عن تبيّن مصْدرِ هذا الضَّيق الذي يبقى مجهولاً، مبهماً، بالنسبة إلينا ولغيرنا.

إن ما يشعرنا بالقلق، في حقيقة الأمر، هو العالم نفسه من حيث هو كذلك، أو هو بالأحرى الوجود- في- العالم. يقول: "إن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو الوجود- في- العالم بما هو كذلك[14]". ويقول أيضاً: "إن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شيء غير متعيّن تماماً. وهذا اللاتعين لا يحدد واقعياً ما هو الشيء الذي يتهدّدنا داخل العالم، وهو لا يقتصر على ذلك بل ينبئنا أيضاً بأن الأشياء الموجودة في العالم لا علاقة لها بالمسألة على الإطلاق، فلا شيء مما هو جاهز أمام أيدينا، أو حاضر أمامنا داخل العالم يقوم بمهمة الشيء الذي يقلق في مواجهته القلق[15]".

وعلى ذلك، فنحن، يقيناً، لا نعرف ما الذي يجعلنا نقلق. فما يقلق عليه القلق هو الكينونة- في- العالم نفسها. ولسنا نستطيع أن نشيرَ إلى شيء بعينه، فما يجعل القلق ينشأ هو: لا شيء، وهو لا يوجد في مكان. إننا نحن أنفسنا نكون ملفوفين في هذا اللاشيء، في هذا اللاتعين، الذي يحاصرنا من جميع الجهات دون أن يوجد هو ذاته في جهة معيّنة. في القلق إذن يكون "العالم في عالميته هو وحده الذي مازال يفرض نفسه[16]".

القلق يكشف عن العدم:

إن القلق يضع الكينونة، كينونتنا، في مواجهة العدم. إن القلق يكشف العدم. كيف ذلك؟ لا ريب في أنَّ ما نقلق عليه في القلق، كما يُقِرُ هيدغر، هو الـعدم الماثل في النَّاس والأشياء، إذ نحسُّ في القلق بأننا نحن وكلّ النّاس والأشياء قد انزلقنا في هاوية أقلُّ ما يقال عنها أنَّها غامضة غير محدَّدة فتبدو لي في قمَّة الغرابة، لا أهتمُّ بها، ولا ألقي لها بالاً، إنَّها تنعدم بفعل العدم الذي يعدم دون انقطاع، إنها فقدت عندي كلَّ معنى، وأضحت خلواً من كل معنىً يثير الاهتمام. يقول: "إن القلق يبقينا معلقين هكذا، لأنه يحدث انزلاقاً للموجود بمجمله[17]". يعني هذا "في عين الوقت ألا-يكون- المرء- في- بيته[18]".

إن هذا العدم لا يبدو لي شيئاً يقف أمامي، ويعارض الوجود، بل يظهر لي أنه معطىً في قلب الوجود. يقول سارتر: "إذا أمكن أن يعطى عدم، فلن يكون ذلك قبل، ولا بعد الوجود، ولا خارج الوجود بوجه عام، بل في حِضْنِ الوجود وفي قلبه، كالحشرة في الفاكهة[19]". إن العدم جزء من كيان الوجود ومن تصميمه، وهو شرط لتحقُّق الوجود وانكشافه، لأن العدم ينكشف لي في كل فعل من أفعال الوجود. يظهر لي في السلب، حينما أقول: هذا الكتاب ليس طاقيَّة؛ وفي إتيان فعل من الأفعال، لأن الفعل يقتضي اختيار وجهٍ واحد من أوجه الممكن وطرحِ سائر الممكنات. يقول: "إن جوهر الكينونة يتضمن [...] العدم. ففي كينونة الموجود، يتم فعل تعديم العدم[20]". هذا القول يفضي إلى أنَّ "تحقيق واقع- إنساني (Da-sein) يعني: الاحتجاز داخل العدم[21]".يقول، مفسراً ما سوف يحدث إذا ما تحقق هذا الشَّرط، يقول: "وحين احتجازه، يقصد الإنسان، داخل العدم، يبدأ مذ ذاك كل واقع- إنسانيبالانبثاق خارج الموجود بمجمله. هذا الانبثاق خارج الموجود، هو ما نسميه التَّعالي (Transcendance)[22]".بدون شرط التعالي إذاً يظلُّ الواقع- الإنساني غير ممسك بذاته.

الكينونة- من- أجل- الموت:

إن الـقلق من شأنه أن يكشف عن الـوجود الأصـيل، الـوجود كـما هـو، للكـينونة. وذلك بالكشف عن مجموع إمكانـات هذه الكـينونة. ومن بين أكبر الإمكانات نَجِدُ إمكان الموت كإمكان مطلق، كإمكان نهائي، يتخطّى كل إمكان ولا يتخطّاه أيُّ إمكان. فـالموت هو آخر الممكنات جميعاً، هو الإمكان الذي يجعل بقيَّة الممكنات كلها، أيَّاً كان نوعها، غير ممكنة. فهو كما عبَّر هيدغر: "عدم إمكان أي وجود بشري على الإطلاق[23]".

إن الموت هو حقيقة كل حي. كل موجود لا بد له من أن يموت. فالموت يجرد الآنية من كل شيء وكأنها لم تكن تملك شيء. فالإنسان يوجد في العالم ثمَّ يختفي منه كأنه لم يكن. إن البداية دليل قاطع على وجود النهاية. إن مشروع الإنسان الأصيل، حسب هيدغر، هو أن يكون كي يموت. إنَّ الكـينونة لا تستطيع أن تتجاوز هذه الإمكانية النهائية، إمكانية الموت.

لـيس الموت في نظر هيدغر مجرد فكرة تعبر عن الـخاتمة أو الانـتهاء، بل هو إمـكانية معاشـة تعبر عن فـعل الـتناهـي أو الانـتهاء. وهذا هو السبب في أن هيدغر لا يرى في الـموت عـرضاً أو حـادثاً يأتي إلينا من الخارج، بل هو يرى فيه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري[24].

إن تفكير الـذات في الـموت، أو استباقها له عن طريق التصور، لهو الكفيل بعزلها عن الآخرين، وردها إلى باطن وجودها الحقّ. ومعنى هذا أن فـكرة الـموت تصرف الـذات عن التفكير في هـموم الحياة ومشاغلها، فتضعها وجها لوجه بإزاء وجودها الفردي الخاص.

يربط هيدغر بين الموت والهم، الهم هو نفسه ظاهرة معقدة، وهو ينشأ من التوتر القائم بين اندفاع الإمكان في المستقبل ووقائعية الموقف الذي يلقى فيه بالموجود، فضلاً عن سقوطه في العالم. إنَّ الهم هو الطابع الأصلي للوجود، ونقصد بالموجود هنا الآنية، فلا بد من أن نجد في الـهم هذه الخصائص الرئيسية الثلاث. ولهذا فإن الهم هو الوجود الذاتي- مع الإمكان- بالفعل- في العالم. فقولنا: "مع الإمكان" يعبر عن الإضمار والتصميم، وقولنا "بالفعل" يعبّر عن الـواقعية، وقولنا "في العالم" يعبّر عن السقوط. ويمكن للموت أن يفهم في علاقة بهذه اللحظات الثلاث للهم.

أولاً- فيما يتعلق بالإمكان والمستقبل، فإن الموت بوصفه الإمكان الأعلى للوجود البشري، فهو الإمكان الذي تخضع له جميع الإمكانات الأخرى، فجميع إمكاناتنا تنتشر، إن صحّ التعبير، في مواجهة الموت. وهناك ضرب من التسلسل الهرمي للإمكانات ويشغل إمكان الـموت موضع السيادة[25].

ثانياً- إن الإمكان يتجه إلى المستقبل، إلى ما ليس قائماً بعد، في حين أن الوقائعية تهتم بما هو موجود "بالفعل". ويكون الموجود البشري منذ بداية الحياة ذاتها في موقف الفناء، فهو يشيخ باستمرار لحد الموت. والموت هو أعظم المعطيات كلها صلابة في الموجود البشري. فالموت سيظل جزءاً من الوضع البشري الوقائعي.

ثالثاً- يتضمن الهم لحظة ثالثة هي الـسقوط أو الاستغراق في العالم الوسائلي وفي التجمع اللاشخصي للهم، ويظهر ذلك في الموقف اليومي تجاه الـموت الذي هو موقف فرار واجتناب[26]. يقول هيدغر: "إن الكينونة اليومية نحو الموت هي، من حيث هي منحطَّة، هروب مستمر أمامه[27]".

يتبين لنا أن الوجود البشري هو بطبيعته وجود لفناء.

خاتمة:

نخلص إلى أن القلق يأخذ بجماع الوجود، فهو الشعور الأنطولوجي الأوَّل، الذي ينبه الإنسان ويفتح عينيه على حقيقة وجوده. إنه يجعل درجةَ انتباهِ الموجود تتصاعد، بوتيرة عصيَّة على الوصف، إلى أن تصل ذروتها القصوى. هنا، وهنا فقط، تتلاشى جميع الأشياء الموجودة في العالم ويدرك الكائن البشري أنَّه لن يجد نفسه، لن يعثر على مجموعه، في العالم إلاَّ بِارْتِدَادِهِ إلى ذاته في حريته الفريدة. وهذا معنى قول هايدغر من أنَّ القلق يلقى بالإنسان في سَمْتِ وجوده الحر من أجل أصالة وجوده. فالقلق هو الطريق الملكي الذي يجد المرء نفسه بواسطته.

هامش:

[1] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ترجمة أمال أبي سليمان، مركز الإنماء القومي، لبنان، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد الرابع، 1988، ص 54

[2] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 45

[3] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 45

[4] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 51

[5] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 54

[6] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 54

[7] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 53

[8] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 51

[9] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص 352

[10] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 353

[11] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 48

[12] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 48

[13] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 48

[14] جون ماكوري، الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1982، ص 186

[15] جورج ماكوري، الوجودية، ص 186

[16] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 354

[17] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 48

[18] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 357

[19] جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب- بيروت، 1966، ص 76

[20] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 50

[21] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 50

[22] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 50

[23] جون ماكوري، الوجودية، ص 216

[24] زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، دار مصر للطباعة، الطبعة الأولى، 1968، ص 412

[25] جون ماكوري، الوجودية، ص 215

[26] جون ماكوري، الوجودية، ص 217

[27] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 457

29/07/2023

حوار مع ميشال أونفري: ليس #نيتشه هو من تعتقدون؟

16/07/2023
أجرى الحوار
فرانز أوليفييه غيسبيرت
ترجمة
الحسن علاج

يكتب بوضوح بسرعة البرق . يوجد في رصيده ما يزيد عن مائة كتاب وآلاف الكتب تقبع في رأسه . هذا هو ميشال أونفري Michel Onfray) ( ، هرقل الفلسفة ، ابن لمزارع وأم منظفة بيوت من النورماندي .

كما كان يحلو لفلوبير القول ، مرحليّ ، ضخم هو عمله حيث تفرض نفسها ، من بين أشياء أخرى ، الأجزاء الاثنا عشر لتاريخ الفلسفة المضاد (1) ، رباعيته كوسموس ، انحطاط ، حكمة بمعية الكتاب المذهل أنيما Anima) ( ، الذي يحمل عنوانا فرعيا : ” حياة وموت الروح من مغارات لاسكو إلى ما بعد النزعة الإنسانية ” (2) .

أنا مُعجب إذن فأنا موجود : لطالما أنا في حاجة إلى الحب قدر حاجتي إلى التنفس . إنها طريقتي في الحياة . الإعجاب كالحب : إنه يتعزز ، كما يلذ لسبينوزا قول ذلك . مع مرور الزمن ، شرعت في الإعجاب بشخصيات كثيرة تصغرني سنا . أطباء ، باحثون ، صناع تقليديون ، منتجو طماطم ، لكن أيضا أعجبت بمؤلفين يوجدون في مجال تخصصي أكثر موهبة مني : ياسمينا ريزا (Yasmina Reza) أو الفيلسوف ميشال أونفري .

تعرفت إلى ميشال أونفري ابتداء من نهاية القرن الأخير ، لكني لم ألتقه ، في واقع الحال ، إلا منذ حوالي خمسة عشر عاما ، بعد رؤيته مرارا وتكرارا في بيته ، ببلدية أرجونتان Argentan) ( على نهر اللورن L’Orne) ( ، وببلدية شامبوا Chambois) ( ، وهي قرية طفولته ، حيث يوجد بها منزل في ملكيته . وهناك ، وأنا أتابع واحدا من دروسه لاحقا بالجامعة الشعبية بكون Caen) ( ، فقد فهمت من يكون هو : ليس مجرد متبحر في العلم ، وإنما هو إنسان أيضا ، حقيقي ، حيث المصداقية تقود الخطى . شخص رائع ، كما يُقال . ومجمل القول أنه غالبا ما كنا نختلف . بخصوص السياسة ، الاقتصاد ، الليبرالية ، أوروبا أو الإيمان على سبيل المثال . على أنه لابد من الاعتراف كوني كنت دائما تحت تأثيره ، مثل أبنائي أو ربائبي ، عندما يتحدث عن النورماندي ، عالم الأحياء أو الفلسفة ، عاملا على بعث الروح في ديوجينوس ، أبيقور و ، بشكل خاص ، نيتشه العظيم حيث اقتنعت ، إنه يعرفه جيدا ، حتى في خلواته ، أنه كان في السابق ، في ماض بعيد إلى حد ما ، واحدا من بين أصدقائه الأقربين .

المجلة : مما لاشك فيه أن كتاب أنيما هو كتاب حياتكم ، يمكن اعتباره كتابا نيتشويا . لقد قمتم بتقويض التماثيل والأفكار الجاهزة …

ميشال أونفري : لقد أدركت في واقع الأمر ، أني كنت أمتلك جانبا محطما للأوثان ، بعد أن قمت بتهشيم بعضها ، لكن لم يكن ذلك بشكل مقصود وواضح ، عند انطلاق تكسير الأواني الفخارية للفلسفة . جاء كتابي الأول تحت عنوان ” أحشاء الفلاسفة ” ـ وهو عنوان من اختيار الناشر ، أما عنواني فهو ” ديوجينوس آكل لحم البشر ” ـ ، فقد كان بكل جلاء تمرينا نيتشويا . لقد كُتب تحت تأثير مقدمة كتاب العلم المرح ، وفيه يقول نيتشه بامتلاك المرء فلسفته الشخصية ، فغالبا ما تعتبر الفلسفة اعترافا سيرذاتيا لمؤلفها ، وأن كل فكر يتشكل مع عجز مؤلفه ، خيباته ومعاناته .

كنت أبلغ من العمر 28 سنة ، وكنت قد أصبت على التو بنوبة قلبية ، جعلتني أفقد على إثرها ، عشرة كيلو غرامات ، من وزني في شهر واحد ؛ زارتني في غرفتي اختصاصية أغذية ، كي تقدم لي دروسا في الطبخ ، كي أنقلها إلى ” زوجتي ” ( رفيقتي لا تطبخ ، أنا من كان يطبخ بصفة دائمة ) ، ثم إن هذا المرض الوهمي Diafoirus) ( وعدني بطعام كئيب من أجل ما تبقى من حياتي ، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة ! عندما قالت لي أن الزبدة ممنوعة وأنه ينبغي عليّ قضاء ما تبقى لي من عمري ، بتناول المارغرين ، أصبت بسورة غضب ، وأخبرتني أن الأمر يتعلق ب” نفس الشيء ” ، أجبتها أنه في هذه الحالة ، بما أنه ليس ثمة فرق ، سوف أستمر في تناول الزبدة ! انصرفت متذمرة ثم اختفت . إن فكرة كتاب بطن الفلاسفة انبثقت لدي ، هناك ، من خلال ارتباط بين نيتشه ، وأخصائية تغذية ، بالمركز الاستشفائي الجامعي لمدينة كون .

لقد كان الكتاب بمثابة رد من راع إلى راعية . فبمعية هذا العنوان الجديد وطبيعة صامتة على الغلاف ، ثمة أكثر من سؤال للاحتفاء بالنتشوية ، والإلحاد ، والمادية والحسوية sensualisme) ( والمُتعية hédonisme) ( في الفلسفة . لقد تحول العمل إلى كتاب شاطئ ، حيث يتم نسيان أنه في عام 1989 قام بتدنيس الفلسفة ، بهدف إخراجها من الغامض ، المُمل ، والكئيب ، الذي يتم وصله عادة بالنوع الذي كان مهيمنا في تلك الحقبة . لا يُلاحظ المرء لا دعابة ولا موعظة …

ثمة ، فيما بعد، مناسبات أخرى لدغدغة الأصنام : اليهودية ، المسيحية ، والإسلام في كتاب نفي اللاهوت ، فرويد في كتاب أفول صنم ، وهيمنة الفلسفة الغربية في الأجزاء الاثني عشر لتاريخ مضاد للفلسفة ، وعلم التربية مع كراس مضاد للفلسفة ، من دون الأخذ بعين الاعتبار الكراسات المضادة ، والتواريخ المضادة التي ظهرت بالمكتبة منذ ذلك الحين …

المجلة : ما نوع العلاقة التي تقيمونها مع نيتشه ؟ ألا يعتبر صديقا يرافقكم في كل مكان ، والذي يتلصص عليكم وأنتم تكتبون ؟

ميشال أونفري : لقد ذهبت مرارا وتكرارا إلى سلس ماريا ، في أونغادينا العليا ، حيث كان يقضي الصيف ، وحيث أتاه إلهام بالعود الأبدي . ولازلت أحتفظ بحجرة من تلك الحقبة ، في محفظة عتيقة ، كنت قد حملتها من أحد الأزقة التي كان يتمشى فيها ، على حافة الفراغ ، أشبه بأعمى . وأثناء تلك الزيارة الأولى ، قمت باقتناء صورة له ، بيعت في متحف المنزل ، الذي خُصص له . قمت بوضع إطار لها منذ عودتي إلى أرجونتان : لم تغادر صورته الشخصية مكتبي . وفي هذه الساعة ، فهو هنا ، ورائي ، مثل عبقري وصيّ . وهو ، علاوة على ذلك ، نابغة وصيّ ، كمثل شخص يكتب بأن معلما جيدا هو من يعلمنا أن نتخلص منه !

وقال أيضا ، أنه لاقتفاء أثره ، ينبغي على المرء أن يقتفي أثره الخاص . الإنسان الذي أكد في هكذا تكلم زرادشت أنه ينبغي ” على المرء أن يبتكر الحرية ” ـ إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها ، وهو برنامجي أيضا ـ ليس معلما متسلطا ، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها ، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب ، أو الثرثرة ، أو كتابة كتب فلسفة ، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية ،أن يعيش حياة ملائمة ، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها ، لدينا معرفة ضئيلة بها ، أو تكاد تكون منعدمة ، علاوة على ذلك صعوبة الاسم ، الذي هو الاستقامة ، ألا وهو : المصداقية المُرتابة . الاجتهاد في عيش حياة نزيهة ، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه .

المجلة : هل تفكرون في نيتشه أثناء تواجدكم في بيئة طبيعية ، في بلدتكم شامبوا ، وأنتم تنظرون إلى شفرة العشب التي تستمع إلى نزوعها الخلاق وهو يطلب منها أن تنمو بهدف البحث عن الشمس ؟

ميشال أونفري : لا أفكر فيه على وجه التحديد ، على أنني لن أنظر إلى طبيعة شامبوا بشكل مماثل ، ما لم أقم بقراءته ! لقد عشت طفولة في الطبيعة ، على إيقاع الطبيعة ، مع الدروس التي يهبها النهر ، الذي يعبر القرية ، المغسل ، الفصول وتكرارها ، الأعمال في الحقول مع والدي . إن تعرّف الحقول ، كنت على وشك القول ، كتابيا ، هو تجربة وجودية أساسية ، من أجل صناعة فيلسوف ما ! يعتبر الربيع لحظة صاخبة ، خلابة ، مذهلة وغامضة .

يوجد في السنة ثمة لحظة حيث ـ عندما أغادر مكتبي كي أجدني في الهواء الطلق ، ثمة نسمة هواء تعلمني أن ما يصنع الربيع هو هنا : نوع من إرادة القوة الخالصة ، التي تصنع لنفسها نسيجا ومتعة للهواء ، متعة في الهواء . إنها قوة النور أيضا ، وربما ضغط للهواء ، شيء ما يدرك بقايا الحيوان بداخلي ، والذي يخبرني بأن فصل الحياة يعقب فصل سبات الطبيعة . يرتفع النسغ ، سوف يهب براعم ، ثم أوراقا ، وثمارا ، إلخ . والحيوانات التي خضعت لبيات شتوي ، سوف تخرج من مخابئها ، سوف تتوهج زقزقة العصافير مثل أول صباح من صباحات العالم ، ويبدو أن كل شيء في اهتزاز الآن ، ومن البديهي ، مثلي ، أنا الذي خُلقت من ذات النسيج من كل هذا ، أعني إرادة القوة ، أعرف أيضا تلك المُتعية البدائية ، الأولية ، الوثنية .

المجلة : أي نوع من الرجال كان نيتشه ؟ هل تلاحظون أنه ثمة سمات مشتركة بينكم وبينه ؟ تحبون مثله الشجار الفلسفي …

ميشال أونفري : ثمة مجلد قديم ، يعتبر بالنسبة لي أهم من سير نيتشه الشخصية ، من ستيفان زويغ (Stefan Zweig) إلى كورت بول جونز (Curt – Paul Janz) مرورا بدانيال هاليفي (Daniel halévy) ، إنه كتاب نيتشه أمام معاصريه (1959) ، فهو يقدم نيتشه بوصفه شخصية دمثة ، رقيقة ، خدومة ، حساسة ، متأنقة ، مع أناقة أخلاقية بعدم إزعاج الغير بأوجاعه ، معاناته ، أحزانه وآلامه .

تبعث قراءة مراسلاته على القلق كونه كان يعاني كثيرا ! إنه مِرْجَفة زلازل لكل ما يحدث : إن الاستماع لموسيقى بحي من أحياء البندقية ، عندما يكون في بيت صديقه بيتر غاست Peter gast) ( ، يجعله يهجع إلى النوم مدة ثلاثة أيام ، متسببا له في آلام الشقيقة المرعبة ، استياء يجعله يتقيأ ، ثم الدخول في أوجاع مجهولة ، قد يظل حبيسا في الظلام طيلة جزء من الأسبوع ، بينما ينخره داء الزهري ، إلى حد كبير يوما بعد يوم . إنه دائما يوجد بين محطتين ، يبحث عن الرطوبة الجيدة ، الشمس الساطعة ، الضوء الجيد . يتوق لزيارة كورسيكا ، اليابان ، لا يشعر أبدا بالطمأنينة في مكان تواجده … فقد يحدث له أن يهبط إلى محطة في الصباح ، ثم يستقل القطار في نهاية اليوم ، لأن المكان لايلائمه ذهنيا ، نفسانيا ولا فيزيولوجيا .

إلا أن نيتشه يوجد بتمامه وكماله في هذه القصة : ففي مقهى تورينو ، حيث سوف يقرأ يوميا جريدة المناظرات (Journal des débats) ، ثمة جرو يحمل ساقه بالمدخل وهو ينزف . جثى نيتشه أرضا ثم أخرج منديلا مضمدا جرحه . وبعد ذلك بوقت قصير ، ذات الجرو ، يركض نحوه ، وهو ينبح ، حاملا في شدقه المنديل ، الذي تم غسله ولفه من طرف صاحب الحيوان . إنه نفس الإنسان الذي كتب صفحات مرعبة ضد الشفقة ، فضيلة الضعفاء … وإلى امرأة أخرى سألته عن مهنته ، أثناء تناول وجبة إفطار ، في نُزل سلس ماريا ، فقد أجابها بأنه يكتب ، لكنه التمس منها بعدم الذهاب لرؤية شيء ، قائلا بأنها سوف تصاب بالذعر بواسطة أحاديثه . ففي جبال أونغادينا Engadine) ( حيث كان يسير بدون توقف ، اعتاد أن يبلل منديلا في القرية من أجل تنظيف أنف طفل مريض ، كان يصادفه في ضيعة المراعي الجبلية . إن هذا الإنسان الذي أشعل فتيل النار في العالم ، يعتبر إنسانا دمثا …

علاوة على ذلك ، فهو يحب الحقيقة أكثر من حبه للشجار . فلو جاز لي أن أقارن ، بما أنكم طلبتم مني ذلك ، فإني أفكر بطريقة مماثلة : فإذا كان ثمن الحقيقة هو التحطيم ، فليكن التحطيم ! إلا أن هذا ليس حبا في الشجار الذي يعتبر جزءا من الأضرار الجانبية !

المجلة : لم تكونوا في حالة سلم مع الكنيسة أبدا . ونيتشه أيضا …

ميشال أونفري : فقد اقترح في كتاب نقيض المسيح ، تدمير الفاتيكان واستعمال أنقاضه لتربية الثعابين .
فهو لم يكن يخلو من التعاطف تُجاه المسيح ، لكنه لا يحب القديس بولس الذي ـ فقد كان يهوديا مضطهِدا للمسيحيين الأوائل ـ تحول هو نفسه إلى مسيحي ، بعد اهتدائه على طريق دمشق . فعندما ينتقد اليهود ، فغالبا ما يكون بولس هو المستهدف ـ بولس الذي يكره الرغبات ، الأهواء ، النزوات ، الأجساد ، النساء ، الجنسانية ، اللذة ـ ، وليس اليهود الذين كان يصادفهم في أزقة روكين Rocken) ( ، وهي المدينة التي ولد بها !

خلافا لذلك ، فهو يعتبر أن هؤلاء اليهود موهوبون للغاية ، والذي ينبغي عليهم أن يقيموا قرانا مختلطا مع الألمان ! لقد قام نيتشه بالتمييز جيدا بين مسيحية يسوع ومسيحية بولس ، بأكثر من وجهة نظر واحدة ، في تناقض مع التعليم الغاليلي ، عبر مثاله الزهدي وحماسته في الاهتداء بالسيف ! لقد اعتبر نيتشه أنه لم يوجد سوى مسيحي واحد وقد مات على خشبة الصليب .

المجلة : أعلن نيتشه عن موت الله والإنسان على أن الأمر كان يتعلق ، كما كتبتم في كتاب أنيما بإله وإنسان محددين ، خاصين بنا ، إله وإنسان حضارتنا اليهودية المسيحية …

ميشال أونفري : لابد ، بادئ ذي بدء ، من توضيح الأمور أن هذا الإعلان وُجد في السابق لدى هيغل عام 1802 في كتاب إيمان ومعرفة . الصيغة الصحيحة هي كالتالي : ” الإله نفسه قد مات . ” وقد قام باستعادة هذه الفكرة في دروسه بمدينة يينا Iéna) (سنة 1805 ـ 1806 . وبالنسبة إليه ، فإن موت المسيح ، هو أيضا ، في نفس الوقت ، موت الله الذي يدخل في منطق التجسيد . يسوغ موت الله ولادة الروح المطلق في كتاب فينومينولوجيا الروح كما جاء ذلك في الأوديسة .

لقد أدرج نيتشه إعلانه ، ضمن وجهة نظر ما بعد هيغلية ، لكنها أيضا وجهة نظر هيغلية مضادة . ذلك لأن موت الله لم يقترن لديه ، باعتبارات حول الروح المطلق ، بل حول ظهور إرادة القوة ، التي أخذت مكانة الله ، المكانة برمتها ـ التي لن تترك له ، على الأقل ، أي مكانة أخرى ، مثل مكانة أن تصير إرادة قوة ، من أجل الاستمرار في الحياة . على أن نيتشه يعتبر أن ” إرادة القوة ” كافية ، وأننا لسنا في حاجة إلى إلباسها لبوسا إلهيا ، وأن نضفي عليها صفة الألوهية . لاوجود عنده لأي تغير سبينوزي لنوع (Deus sive natura) ـ الله والطبيعة .

وبالنسبة لموت الإنسان ، فقد تم الإعلان عنه في كتاب هكذا تكلم زرادشت : أي إنسان مات ولماذا ؟ إنه إنسان اليهودية المسيحية ، بمعنى الإنسان الثنائي مع جسد خطّاء ، وروح لامادية ، خالدة ، منذورة لحياة بعد الموت الجهنمي أو الفردوسي ، حسب استحقاقاتها المكتسبة ، أو لا ، في الحياة الدنيا . وهو ، إضافة إلى ذلك ، إنسان المثال الزهدي ، الذي لُقِّن قيم مذهب القديس بولس ، الذي يعتبر بغضا للذات ولرغبتها الجنسية ، حياتها ، جنسانيتها ، كراهية النساء والجسد . إن “الإنسان الأخير ” ، الذي يفترض من بعده موت الإنسان ، يحيا حياة عدمية .

هذا هو الإنسان الذي أعلن عنه نيتشه ، والذي سيترك مكانه للإنسان الأعلى الذي ، يعود بصورة أبدية ، بنفس الشكل ، في عدد لانهائي من المرات ، بعد أن يكون قد عاد سابقا ، بصورة أبدية ، في عدد لامحدود من المرات ، بنفس الصيغ ؛ وهو يعرف أيضا أنه ينبغي محبة هذه الحقيقة الأنطولوجية للعود الأبدي ، إنه معنى الحب القدري ( أحِبّ مصيرك ) ، لأنه الطريقة الوحيدة ل” ابتكارالحرية ” في حين أننا لا نتوفر على إرادة حرة ؛ والذي يعرف ، في آخر المطاف ، أن القبول بالعود الأبدي يخلق المرح . يتعلق موت الإنسان بنهاية العدمي الراكس ، وهو يجعل في نفس الوقت ولادة الإنسان الأعلى الفعال ممكنة .

المجلة : بما أنكم تعتبرون في الوقت الراهن واحدا من أفضل مفكرينا أو مدرسينا ، هل بإمكانكم أن توجزوا لنا فكر نيتشه في بضعة جمل للمبتدئين مثلي .

ميشال أونفري : يتحدث نيتشه ، في بداية كتابه زرادشت ، عن تحولات ثلاثة : ينبغي على المرء أن يكون جملا ، لحمل أثقال الماضي ، ثم أسدا ، من أجل التخلص من هذا الماضي ، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ ” براءة الصيرورة ” ، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة . إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث ، بمعنى جدلية هيغلية لاتزال ، ولو أنها ما بعد هيغلية ، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَّرة ، كما هو في غالب الأحيان ، مفاتيح عمله برمته .

ويعتبر زمن الجمل لديه ، هو زمن قارئ شوبنهاور ، حيث يضع كتاب العالم كإرادة وتمثل ، رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة : حيوية أحادية ، هي حيوية الإرادة ، wille) ( ، التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية المسيحية متجاوزة ، والتي تقدم تفسيرا لحيوية لما يوجد ، هذه الإرادة الشهيرة ، التي هي ليست إرادة علماءالنفس ، قوة الاختيار ، الإرادة ، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة ؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة ، بمقتضاها ، حياة كل إنسان ، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام ، والموسيقي بشكل خاص ، تسمح بتأمل حتمية السلبية . وهو أيضا الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي ، ويعتبر أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا ، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة ،انطلاقا من الأساطير ، كما فعل الإغريق مع مسرحهم . إنه زمن ولادة التراجيديا .

يعتبر زمن الأسد زمنا أبيقوريا . لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني ، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبرا ، لبناء سياسة انطلاقا من الموسيقى الألمانية ، التي تخصص لتعزيز دينامية أوربية، بل مكانا مكرسا لشخصه ، مع الطبقة الأكثر ثراء ، والتي مولت مشروعه . إنه زمن كتاب المعرفة المرحة ، الصداقة الأبيقورية ، متأثرا بالفكر الفرنسي ، فولتير والأخلاقيين الفرنسيين . زمن تم اقتسامه مع لو سالومي وبول ري Paul Rée) ( الحريص على تشييد طائفة فلسفية ملموسة سوف تثبت فشلها .

يعتبر زمن الطفل هو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة : إنه زمن إرادة القوة ، العود الأبدي ، الإنسان الأعلى ، محبة القدر كإيثيقا إنسان جديد ، وقد تخلص من الجِمال والأسود ! إنه بالتأكيد زمن كتاب هكذا تكلم زرادشت ، قصيدة عظيمة ومذهلة ، يقدمه مثل ” إنجيل خامس ” .

المجلة : لقد قمتم بالكثير لصالح نيتشه ، مذكرين بانتظام بأن أخته اختلقت الأراجيف إرضاء للسلطات العليا للحزب النازي ، الذي انضوت تحت لوائه . لم تعثروا في كتبه على أي من آثار النزعة المعادية للسامية أبدا …

ميشال أونفري : حتى أنني وجدت آثارا مناصرة لليهود ! لقد تم خلط ، والبعض يخلطون دائما ، النزعة النظرية المعادية لليهود لنيتشه ، ومعاداة السامية ، التي هي الكراهية العميقة لليهود ، على هذا الأساس . في أغلب الأحيان ، عندما كان نيتشه يتكلم عن اليهودية ، فإنه كان يتحدث عن اليهودية المسيحية ، بمعنى فكر شاول Saul) ( ، اليهودي المتحول ، الذي أصبح يحمل اسم القديس بولس ، مؤلف الرسائل Epitres) ( كما هو معروف . فهو لم يكن يرغب في أن تجعل هذه اليهودية الناس متخاصمين مع العالم ، عاملة على الإعلاء من شأن المثال الزهدي ، ومعترضة على حياة مرحة ، مبتكرة عالما ماورائيا منفِّرا ، ممجدة لقيم العدمية مثل الشفقة ، محبة القريب ، الصفح عن الإساءة ، محاكاة آلام المسيح ، الانفعال الألمي doloriste) ( .

ومع ذلك ، فلطالما أبان في حياته عن تأييد حقيقي لليهود : فقد تخلى عن ناشره الأول ، الذي قام بنشر نصوص معادية للسامية لفاغنر ؛ فقد كتب أنه ينبغي ” إعدام المعادين للسامية ” ؛ عاملا على تعظيم العبقرية اليهودية والألمانية في آن واحد ، إلى درجة معتبرا أنه ينبغي الاشتغال على تنوع العرقين ، عبارتا العصر ! ؛ كان يكره صهره ، برنار فورستر Bernard Forster) ( ، زوج أخته، معاد حقيقي للسامية ، ابتكر مستوطنة آرية بالبراغواي قبل أن ينتحر هناك !

وبالفعل فإن أخته المعادية للسامية ، سيئة السمعة ، هي التي قامت ، بعد جنون وموت شقيقها ، بتشويه نصوصه ، عاملة على نسخ رسائله مع تنقيحها ، مهذبة عمله ، من أجل التلاعب بالالتباس بين النزعة المناهضة لليهود ، ومعاداة السامية قبل أن تبالغ في التزلف إلى موسليني ، فهتلر ، كي تقنعهما بأن أخيها ، كان سيدعم الفاشية والاشتراكية الوطنية ! دعونا نوضح ، بالمناسبة ، أن هتلر كان يكره نيتشه ، معتبرا إياه شاعرا حماسيا ، مقرا بتفضيله لشوبنهاور وفيخته ـ وهما يعتبران بكل صراحة معاديين للسامية !

المجلة : لكنه كان معاديا جدا للمسيحية وقد كان هذا يؤسف أمه …

ميشال أونفري : معاد للمسيحية ، هذا صحيح . ذلك دأبه . ابن وحفيد قس لوثري ، وهو نفسه كان مهيأ ، من قبل أمه ، لنفس المهنة ، طالب بعلم اللاهوت منذ سنة ، لما كان في العشرين من عمره ، كان يؤمن لمدة زمنية معينة . وكتابات الشباب شاهدة على ذلك . يُجهل تماما متى فقد إيمانه . بإمكان المرء تصور أنه كان مؤمنا بالله لما انخرط في كلية اللاهوت ، وذلك هو الحد الأدنى المطلوب ، ويُحتمل فقدانه للإيمان هذه السنة بالذات ، لكونه سيتوجه في السنة الموالية ، نحو الفيلولوجيا ، دون أن يمر بمرحلة الفلسفة . لم يحك عن تجربة فقدان الإيمان في أي مكان . من المعروف أنه كان يرغب في أن يكون مؤلفا موسيقيا ، وأن أمه هي من أجبرته على متابعة دراساته ، كي يصبح قسا ، موضحة له أنه يستطيع ممارسة الموسيقى ويرأس حفلا مقدسا بمعبد ما . لم تفهم أن ابنها كان يصبو إلى أن يصبح مؤلفا موسيقيا مثل ليزت Liszt) ( وابراهمس Brahms) ( وفاغنر ، معاصريه ، وليس العزف على الأرغن بين وظيفتين …

المجلة : ” بدون لذة ، قال نيتشه ، تنعدم الحياة ، إن صراعا من أجل اللذة هو صراع من أجل الحياة ” لماذا كان رسول مذهب المتعة ، تبعا لتعبيركم ، غاية في التعاسة ؟

ميشال أونفري : ربما لأنه كان يصبو إلى ما لم يكن يملكه ، أو لم يكن موجودا البتة ! لقد أكد في مقدمة كتاب المعرفة المرحة ، لقد قلت ذلك سابقا ، أننا نتفلسف بمعية الأشياء التي نفتقدها ! لقد قضى نيتشه حياته تحت وطأة المعاناة ، تعتبر حياته ، لو جاز لي قول ذلك ، درب صليب حقيقيا . لقد عانى ، فعلا ، عددا لا يصدق من الأمراض ، التي يحتمل جدا أنها نجمت عن عدوى داء الزهري ، بشكل مبكر ، أثناء المرحلة الثانوية ، داخل مبغى . سوف يتطور هذا المرض وصولا إلى مرض عصبي ، مصيبا النخاع الشوكي ، المرحلة الثالثة من المرض ، قبل أن يُفضي إلى جنون يستمر عشرات السنين . مراسلاته تبرز مرضه باستمرار : أمراض الشقيقة التي تدوم أياما عديدة ، هربس herpès) ( تناسلي جسيم ، التهابات خطيرة تصيب العينين ، إلخ . من ثم فقد كان يتناول الأدوية التي لاينبغي عليها أن تساعد على تشويه الأمور . وبالفعل فقد كان يعالج مرضه الجنسي بالزئبق . كذلك فقد كان يتناول مستحضرات سامة . مضيفين إلى ذلك مجالا نفسيا طفليا وراشدا تراجيديا : موت الأب بعد معضلة من طبيعة دماغية ، وموت أخ عندما رآه في المنام ، قبل يوم من خروج والده المتوفى من قبره ، ساعيا وراءه ، من أجل اصطحابه معه إلى العدم ، وسيط تربوي مكون من نساء ، وضمنهن أخت حقودة .

يتفلسف نيتشه بغية الشفاء من كل هذا . فكره وجودي ، فلسفته خاصة ، فلسفة زمن الطفل ، أقيمت من أجل العثور على طمأنينة الكائن في الفرح ، الذي لا ينفصل عن نظرية بسيطة : أحبّ ما لا تستطيع فعل أي شيء حُياله ، [نظرية] محبة القدر الشهيرة ، التي هي محبة المرء لقدره .

تبتكر هذه النظرية النزر القليل ، فهي تعيد تشكيل وصياغة تقنيات وجودية للحكمة القديمة : إن نظرية العود الأبدي تعتبر شائعة ، لدى معظم المفكرين الإغريق ، نظرية القبول بما لا يمكن أن يكون متبوعا بالفرح ، هي نظرية رواقية وأبيقورية . إن الفلسفة كفن للعيش ، العيش الكريم ، إذن مثل تقنية مُتعية، أنتم على حق باستعمال العبارة ، إنها ثابتة من ثوابت الحكم العتيقة .

يتفلسف نيتشه كي يتعايش مع معاناته : إن كونه تعيسا ، هو ما يجعله يرغب في أن يكون مُتعيا وحيويا ! سوف يبطل الجنون جزءا من معاناته ، التي تبدو في بداءة الأمر ، معاناة نفسية : لن تشير أمه وأخته اللتان تعتنيان بصحته، إلى أنه كان يعاني من أمراض محددة ، قرابة السنوات العشر ،التي قضاها خائر القوى . إن الجنون الذي اعتُبر ذروة مرضه ، بدا أنه ألغى كل الأمراض الأخرى .

المجلة : في الجزء السابع من كتابكم تاريخ مضاد للفلسفة ، يعتبر الجزء الذي كُرّس لنيتشه غنائيا مفعما بالتعاطف . هل لا يزال فلاسفة آخرون في مجمعكم أو أنه قام باغتيالهم ؟

ميشال أونفري : بدون شك ثمة بقية منهم ! سيكون من التعصب والمجازفة أن يصبح الإنسان ذو كتاب واحد أو فيلسوف واحد ! إن كتابا واحدا يفضي إلى الرغبة في التخلص من الكتب الأخرى . ففي مجمعي يوجد ديموقريطس ، أبيقور ، لوكريتيوس ، مونتاني ، إتيان دو لابويسيه (Etienne de La Boétie) ، جان مسلييه Jean Meslier) ( ، فولتير ، برودون Proudhon) ( ، كامو … وإذا لم يقل شيئا بخصوص لابويسيه ، مسليه ، برودون وطبعا ، ألبير كامو ، فقد اعتبر أن المؤلفين الذين أخوض الحديث بخصوصهم ، كانوا مهمين للغاية . ثمة ما يربو عن ثلاثين ألف كتاب في مكتبتي بمدينة كون ، ويحتل نيتشه ستة أمتار من الرفوف ، والبقية لا تعود له بطبيعة الحال !

يتضمن عملي التاريخ المضاد للفلسفة اثني عشر جزءا ، إنه مليء بالفلاسفة ، الذين قمت بالثناء عليهم ،يفوق عددهم الثلاثين فيلسوفا : أبديريون abdéritains) ( ، ذريون ، عرفانيون إباحيون ، وإخوة وأخوات العقل الحر ، مسيحيون مُتعيون من عصر النهضة ، زنادقة متبحرون في العلم ، غلاة الأنوار ، ملحدون ، اشتراكيون ، محللون نفسانيون ليسوا فرويديين ، إنسانيون مناوئون للبنيوية ، أخلاقيون يهود . كل هؤلاء يرافقونني أيضا !

المجلة : ” لو أنت شئت معرفة من هو الفيلسوف الجيد ، كتب نيتشه ، قم بدمجهم كلهم معا . الجيد هو من يضحك . ” إذا كانت السخرية والاستهزاء قوتين أساسيتين ، فلأنه ، قبل كل شيء ، يعتبر محطما للأيقونات ، أليس كذلك ؟ أم أن الضحك لم يكن ، بالدرجة الأولى ، فلسفيا ، مثلما قال سقراط ؟

ميشال أونفري : ثمة فكرة مألوفة لفن التصوير ، تعارض ديموقريطس ، الذي يضحك على هراقليطس الذي يبكي . الأول ، فيلسوف مادي ، يختزل كل شيء في رقصة للذرات ، هو متيقن أنه من العبث ، أن يستاء المرء ، من التقدم البئيس للعالم ، وأنه ، تبعا للتعبير المكرس ، يستحسن الضحك على ذلك ! الثاني ، مفكر الزمن الذي يمر ،الحركة ، النهر الذي ، واحسرتاه ، لا نسبح فيه مرتين أبدا ، يبكي ، لكون أن الخلود لن يكون من نصيبه ، بل التبدد !

فلو قمنا بتاريخ للفلسفة مشكل تماما من الفلاسفة الضاحكين ، سوف يكون بحوزتنا مجموعة رائعة ، ستقود من ديموقريطس إلى كليمون روسيه Clément Rosset) ( ، وهو نيتشوي عظيم في القرن العشرين ، مرورا بطبيعة الحال بسقراط ، ديوجين ، مونتاني ،فولتير ، ديدرو ، لاميتري (La Mettrie) ، ونيتشه ! وأضيف إليهم رابليه ، حيث عملت الفلسفة على ازدراء الفكر لأسباب واهية . وفي المقابل ، فإن أفلاطون ، القديس أوغسطين ، روسو ، هيغل ، سارتر ، فرويد لا يضحكون ، ثم إن ما فعله فكرهم في التاريخ ، أو التأثيرات التي أحدثها فكرهم في التاريخ ، لم تكن مرحة ، إذا جاز لي استعمال هذا التلطيف !

لم يكن برغسون فكها أيضا ، وهو يحلل الضحك ، ولا فرويد في كتابه النكتة وعلاقاتها باللاوعي ، إلا أن كليمون روسيه ، فقد كان كذلك عاملا على إنعاش الضحك ، بشكل ملموس ، في جميع كتبه وبخاصة ، تحت اسم مستعار لروجيه كريمان (Roger Crémant) ، في كتاب الصباحات البنيوية ، مسرحية هزلية ساخرة ضد الموضة البنيوية لحي سان جيرمان دي بري .

وبالفعل ، فإن الضحك هو إيقاف سخرية العالم ، وإيقاف أولئك الذين يجسدونه . كذلك فإن الابتسامة ، التي يتم الحديث عنها ، أقل بكثير ، إلا أنه يتبين أنها أكثر فعالية . إنها تمتلك ، بالفعل ، القوة على الضحك من دون وقاحته ، نجاعته ، من دون الجرح الذي يلحقه بها .

المجلة : قلتم أنه حتى هكذا تكلم زرادشت يعتبر كتابَ دُعابة . ألم يكن نيتشه جادا أبدا ؟

ميشال أونفري : طبعا ، بصفة دائمة ، بما في ذلك الضحك …يعتبر زرادشت كتاب الفيلسوف الأكثر تعقيدا ، وهو يبدو ، لسوء الحظ ، من خلال شكله الشعري ، أسهل على الفهم ، الشيء الذي يترتب عليه سوء الفهم . لقد قرأت نيتشه ، مرة واحدة ، وليس بكامله ، بشكل غير منتظم ، وقرأته مرة ثانية ، كاملا ، وفق تسلسل زمني ، من أجل أطروحتي ، ومرة ثالثة ، أيضا كاملا ، وفق تسلسل زمني ، من أجل دروسي بالجامعة الشعبية بمدينة كون .

بمقتضى الأزمنة النيتشوية الثلاثة ، الجمل ، الأسد ، الطفل ، لكن أيضا ، في إطار سياق سيرته ، التي يتم تجاهلها في أغلب الأحيان ، فإن الطريقة الفضلى للتصرف ، تكمن في قراءة كل شيء ، طبقا لتسلسل زمني ، مراسلات وسير حياة مضمنة في النهاية. فبعد القيام بهذا العمل الجبار يتم الشروع في إعادة تنظيم ، ما يبدو للوهلة الأولى فوضى ، يتم الاعتقاد فيها بفحص التناقضات . ليس ثمة تناقضات لدى الفيلسوف ، إلا بالنسبة لأولئك الذين اكتفوا بقراءة ثلاثة من كتبه …

إن هكذا تكلم زرادشت هو كتاب تركيب تتسرب إليه السيرة الشخصية بطريقة مشفرة . لقد تم تأليف العمل مثل معارضة للأناجيل ، الشيء الذي يفترض وجود طبقة هزلية ، ساخرة ، مضحكة . ثمة مثال على تداخل حياة نيتشه بنص القصيدة . فقد كتب في وقت من الأوقات : ” لا تذهب إلى المرأة إلا والسوط معك . ” اعتراف بكراهية النساء ، متحيز جنسانيا ومتعصب لهيمنة الذكور phallocrate) ( ، يقول القارئ المعاصر المخمور . ومما لاشك فيه ، أن هذه الجملة تحيل أيضا ، على صورة تظهر الفيلسوف وبول ري ، مربوطين إلى عربة حيث تحمل لوسالومي سوطا ، توجد في نهايته أزهار الليلك ، دلالة على الحب الوليد . في تلك الفترة ، اعتبر كل من نيتشه وري عشيقين للو سالومي في السر . ويطمح الفيلسوف بالنسبة للثلاثة ، إلى مشروع حياة مشاعية ، متواضعة ، مع بستان خضروات ، يسمح بحياة فيها اكتفاء ذاتي ، في مزرعة . طلب نيتشه من ري ، الذي يعتبر هو أيضا ، عشيقا لسالومي ، بأن يصرح لها عن حب نيتشه نيابة عنه! إلا أنها لا ترغب لا في هذا ولا في ذاك .

ذات يوم ، كان نيتشه ولو سالومي على متن قارب صغير في وسط البحيرة ، وبقي ري على شاطئ البحيرة . قال نيتشه أنه كان ثمة قبلة ، بينما تقوم لو سالومي بتكذيب ذلك . استياء . يكتب نيتشه أشياء رهيبة ، محقرة ، ضد هذا وذاك . عن السوط الذي يتم العثور عليه أيضا في القصيدة ، وكذلك في صورة ، لابد من وضع ذلك في سياقه الخاص . الشيء الذي لا لا يحول دون البعد الكاره للنساء ، بطبيعة الحال … وهكذا يكون بالإمكان مضاعفة الأمثلة : قصيدة جزيرة الموتى وقصيدة جزيرة سان ميشال بالبندقية ، ” بنات الصحراء ” هن البغايا اللواتي يدين لهن بإصابته بمرض الزهري في عز شبابه بمبغى بلايبزيغ ، إلخ .

علاوة على ذلك ، الأسلوب الغنائي والشعري ، الذي يحاكي أسلوب الأناجيل ، محاكاة ساخرة ، أو النصوص الدينية ، يزخر بالتكرارات ، أيضا ” هكذا تكلم زرادشت ” ذائع الصيت ، والذي يكاد يقدم خلاصة لكل فصل . ومن البديهي أن ، ثمة معارضة أيضا : هي معارضة الأفكار المهيمنة لأوبرا فاغنر . ومثل ذلك مع السجوع الموسيقية في النص الألماني للقصيدة التي يستهدفها المؤلف هي الأخرى .

إن تلك القصيدة العظيمة ، هي في واقع الأمر ، فرضيتي ، أوبرا بدون موسيقى تصدر عن عودة المكبوت لديه : لطالما رغب في أن يكون مؤلفا موسيقيا ، إلا أن أمه منعته من ذلك ، فقد سخر كل من براهمس وفاغنر من الأعمال التي عرضها عليهما ، نفس الشيء مع هانز فون بولوف (Hans von Bulow) ، الذي ابتكر أعمال مؤلف الرباعية Tétralogie) ( والذي كان ، فضلا عن ذلك ، الزوج الأول للفتاة ليست Liszt) ( ، كوزيما Cosima) ( ، التي سيرتبط بها فاغنر ، والتي كان نيتشه يكن لها حبا سريا . يعتبر زرادشت أوبرا ، حيث يُقرأ النص بصوت عال ، بالكاد يمكنه تأليف نمط غنائي Sprechgesang) ( قبل الأوان !

معارضة الأناجيل ، معارضة النزعة الفاغنارية ، معارضة سيرية ، لو شاء المرء قول ذلك ، إن النص مشفر بطريقة رهيبة . لابد من أن نضيف إلى هذا الترميز ، اختيار شكل شعري يفسح المجال لعبقرية القارئ ، حيث الحصافة تصنع النص . قبل مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp) ، فإن قانون الرائي هنا ، هو من يبتكر اللوحة …إن معناها ليس واضحا بشكل مباشر . وحينما نكتب مثل شاعر رمزي وليس مثل فيلسوف ألماني ، فإنه ثمة خطر كبير في سوء الفهم التأويلي .

المجلة : هل كان يضحك من الإنسان الأعلى أيضا ؟

ميشال أونفري : لايضحك نيتشه عما يؤمن به ! إنها ، علاوة على ذلك ، ميزة المفكرين الضاحكين والمؤمنين . وهو أيضا منطقتهم العمياء ! لأن ديموقريطس يضحك على هيراقليطس ، وليس على نفسه ، ديوجين يضحك على أفلاطون ، وليس على نفسه ، يضحك نيتشه على الأفلاطونية ، المسيحية ، على المثالية الألمانية ، النزعة الفاغنارية ، من دون أن يضحك على نفسه … يشكل الإنسان الأعلى ،العود الأبدي ومحبة القدر أركان صرحه الفلسفي ، ثم إن الضحك على هذا ، سوف يؤدي إلى انهيار قلعته المفاهيمية ! ما لا يمكن تصوره ، ما لا يمكن تصديقه …

يقوم الضحك بالتدنيس وليس بمستطاع المرء مطالبة من يضحك بألا يدّخر مقدسه ، الذي سيكف عن أن يكون كذلك . لا يتم التقيد بما نضحك عليه ، على الأقل زمن الضحك . ولكن فحتى زمن إيقاف اعتقاده يعتبر زمنا مرفوضا من لدن المؤمن .

إن الضحك موجه ضد الغير خاصة ، فهو يفترض في المراحل الأولى ، جرعة من القسوة تجاهه : باطاي ، فوكو ، روسيه ، كبارالضاحكين في القرن العشرين ، لم يتم بتاتا ضبطهم متلبسين بالضحك على أنفسهم ! علاوة على ذلك ، فقد كان كل من باطاي وفوكو شخصيتين مثيرتين للاشمئزاز ، على خلاف كليمون روسيه ، حيث يساعده الكحول ( والبيانو …) على تحمل معاناته الوجودية .

يفترض الضحك على الذات أن يصبح المنشار الموسيقي السارتري ، منشارا موسيقيا لليسار ، ” التفكير ضد الذات عينها ” ، يمكن تصوره .لا وجود لأحد غير قادر على التفكير ضد نفسه ، أكثر من أولئك الذين يحثون على التفكير ضد أنفسهم ! إن اليسار بأتمه لا يمارس النقد الذاتي إلا مع مسدس على الصدغ ، مباشرة قبيل الرصاصة التي خصصها لهم أصدقاؤهم القدامى … هل سبق لكم أن لاحظتم أن سارتر يفكر ضد نفسه مرة واحدة ؟ فما قام به هو التفكير من أجل ذاته فقط ، كبورجوازي صغير للمفهوم ، عاملا على تبني كل الأخطاء الأيديولوجية لعصره .

المجلة : كيف جئتم إلى نيتشه ؟ هل تتذكرون أول لقاء لكم به ؟ أين كان ؟ كم كان عمركم آنذاك ؟

ميشال أونفري : كنت أبلغ من العمر 14 ـ 15 سنة ، وكان ذلك في سوق بأرجونتان ، وهي المدينة التي كنت بها طالبا داخليا بالثانوية . ثمة بائعة كتب مُستعملة ، بأثمنة منخفضة لكتب الجيب . كنت أقرأ بنهم وفوضى : الشعر ، الروايات ، السوسيولوجيا ،الفلسفة والتحليل النفسي . في شيء من الفوضى ؛ إلى حد ما على طريقة عصامي رواية الغثيان : لا أحد يوجهني ، لا أحد يقودني في تلك القراءات ، لا أحد يجعلني أربح الوقت ، بتقديمه النصح لي ، بدلا من هذا الشيء أو ذاك … اكتشفت السوريالية ، بودلير ، الوجودية ، سارتر وبوفوار ، عمل فرويد ، الفوضوية مع كتاب ما هي الملكية ؟ لبرودون ، والماركسية مع كتاب بيان الحزب الشيوعي . من ثم نيتشه مع كتاب هكذا تكلم زرادشت ضمن سلسلة كتاب الجيب .

لابد من القول بأن نيتشه ، ماركس وفرويد ، الفلاسفة الثلاثة ، الذين يطلق عليهم فلاسفة الشك ، وعندما يكون المرء في تلك السن ، والماضي الذي كان ماضيّ ، إنها شمس مشرقة على وجوده : إن حياة عامل الفلاحة لوالدي وأمي التي كانت تعمل كمنظفة ، الفقر ـ وليس البؤس ـ في البيت ، كل هذا يتصادى مع تحليل صراع الطبقات ، صناعة الفُرص ، التي هي اختلاس قوة العمل لدى العامل ، لدى ماركس وبرودون . غادرت بين العاشرة والرابعة عشرة ، في فترة السنوات الأربع ، ميتم رهبان ساليزيين Salésiens) ( كان البعض منهم متحرشين بالأطفال ، منذ ذلك الحين فصاعدا ، شرعت مسيحية نيتشه المضادة في التحدث إلي ّ. أيضا إنجازات فرويد ، في كتابه ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية ، تخص في المقام الأول المراهق الذي كُنته .

في الرابعة عشرة ،أحببت نيتشه لأسباب واهية جلية : معاداته للمسيحية ، لكن أيضا مديحه للقسوة ، انتقاده للشفقة ، إشادته بالأقوياء ، احتقاره للعبيد ، ازدراؤه للخدم ، كراهيته للمرأة ، ” إرادته للقوة ” ، ” إنسانه الأعلى ” الذائع الصيت ، عديدة هي القراءات التي قمت بها أرضا ! لقد كانت قراءة من نوع رخيص ؛ لنفترض ، ربما ، أني كنت معذورا ، كوني كنت أبلغ من العمر الخامسة عشرة تقريبا ، وأن المراهقة ، وفترة جسم في حالة انصهار ، قلب محتدم ، وروح غاضبة ، تعثر هنا على غذائها اليومي ! لقد شكل ذلك بالنسبة لي فوضويا أدبيا … وهذا بالطبع ليس صحيحا .

إنها ال” اجترارات ” كي نستعمل عبارة أو فكرة يفضلها نيتشه ، والتي سمحت لي ، مع مرور الزمن ، بالخروج من هذه القراءة البدائية . إن هذا العمل هو كحول قوي : تناوله بجرعات قوية صبيانية لهو شيء سامّ .

المجلة : ما هو كتاب نيتشه المفضل لديكم ؟ والذي ينبغي عبره ولوج عمله؟

ميشال أونفري : أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب هكذا تكلم زرادشت ، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم ، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه !
إنه كتاب المعرفة المرحة ، وذلك من خلال مقدمته الرائعة ، وعلاوة على ذلك ، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه : خفة ، عمق ، أسلوب ، أناقة ، حيوية ، صفاء ، جذرية …



1 ـ ميشال أونفري ، تاريخ مضاد للفلسفة ، 12 جزءا ، غراسيه ، 2006 ـ 2020.

2 ـ ميشال أونفري ، موسوعة مختصرة للعالم ، جزء 1 ، كوسموس ، نحو حكمة بدون أخلاق ، جزء 2 ، انحطاط . حياة وموت اليهودية المسيحية ، جزء 3 ، حكمة . معرفة كيفية العيش عند سفح بركان ، جزء 4 ، أنيما Anima ) ( . حياة وموت الروح من لاسكو إلى ما بعد الإنسانية ، ألبان ميشال ، 2015 ، 2017 ، 2019 و2023 .

مصدر النص : المجلة الشهرية الفرنسية R***e Des Deux Mondes) ( ، ماي ـ يونيو 2023
أعلم بما لا تعلم -culture

Website